سياسة وعلاقات دولية
حمد الكعبي : محطة براكة من منظور استراتيجي.. نموذج ناجح في التعاون الدولي
أكد حمد علي الكعبي المندوب الدائم للدولة لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن دولة الإمارات العربية المتحدة استطاعت خلال عقد من الزمن تحقيق قفزات نوعية في تطورها من مُجرد قادم جديد إلى قطاع الطاقة النووية السلمية إلى جهة مُطورة للطاقة النووية أثبتت مكانتها المرموقة ورسخّت ثقافة الشفافية التشغيلية و الالتزام بأعلى معايير السلامة والجودة النووية.
و قال الكعبي في مقال له :” لقد كانت مهمتنا واضحة للغاية و هي اعتماد دولة الإمارات العربية المتحدة على تقنيات جديدة لإنتاج طاقة كهربائية آمنة وصديقة للبيئة تدعم النمو في الدولة على امتداد العقود القادمة.. وبناءً عليه، شرعت الدولة في عملية تقييم استراتيجية تهدف إلى اختيار التقنيات المناسبة لإنتاج الطاقة الكهربائية وهي العملية التي شملت تحليلاً شاملاً لجميع أشكال التقنيات المجربة والموثوقة في قطاع انتاج الكهرباء، وعملت على تقييمها بناء على مجموعة من المعايير الاستراتيجية التي شملت قُدرتها على المساهمة في مجالات أمن الطاقة والتنويع والاستدامة البيئية.. وأفضت هذه العملية الشاملة إلى اختيار تقنيات الطاقة المتجددة والطاقة النووية السلمية كمصادر رئيسية لإنتاج الطاقة مستقبلا وتتكامل مع بعضها، إلى جانب الحلول الحالية التي نعتمد عليها”.
وفيما يلي نص المقال ..
” بصفتي المندوب الدائم لدولة الإمارات العربية المتحدة لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية والممثل الخاص لدولة الإمارات لشؤون التعاون النووي الدولي، فقد حظيت خلال العقد الماضي بفرصة العمل مع مختلف دول العالم بهدف تعزيز نهج الاستخدام المسؤول للطاقة النووية السلمية.
لقد استطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة خلال عقد من الزمن تحقيق قفزات نوعية في تطورها من مُجرد قادم جديد إلى قطاع الطاقة النووية السلمية إلى جهة مُطورة للطاقة النووية أثبتت مكانتها المرموقة ورسخّت ثقافة الشفافية التشغيلية والالتزام بأعلى معايير السلامة والجودة النووية، حيث عكس هذا النهج قدرتنا في دولة الإمارات على بلورة الرؤية التي اعتمدناها لتطوير الطاقة النووية السلمية بشكل أكثر كفاءة وفعالية مقارنة بالبرامج النووية الناشئة الأخرى.
وبفضل توجيهات القيادة الرشيدة وجهود فرق من الخبراء البارزين الذين تعاونوا عن كثب مع المنظمات الدولية عملنا طيلة السنوات العشر الماضية وتقدمنا بخطى ثابتة لكي تصبح دولة الإمارات الدولة 33 عالمياً التي تمتلك الطاقة النووية للأغراض السلمية.
و بالنظر إلى ما تقدم، فمن الأهمية أن نتذكر انطلاقة البرنامج النووي السلمي الإماراتي في عام 2006، حيث أدت المعدلات المرتفعة للنمو الاقتصادي والاجتماعي في دولة الإمارات حينها لحدوث زيادة كبيرة في مستويات الطلب على الكهرباء، وهو ما سلط الضوء على ضرورة اعتماد تقنيات جديدة لإنتاج الكهرباء لتعزيز أمن الطاقة و الحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري لإنتاج الطاقة الكهربائية، إلى جانب تنويع مصادر الطاقة، والأهم من ذلك، تطوير قطاع كهربائي أكثر استدامة من الناحية البيئية.
لقد كانت مهمتنا واضحة للغاية وهي اعتماد دولة الإمارات العربية المتحدة على تقنيات جديدة لإنتاج طاقة كهربائية آمنة وصديقة للبيئة، تدعم النمو في الدولة على امتداد العقود القادمة.
وبناءً عليه، شرعت الدولة في عملية تقييم استراتيجية تهدف إلى اختيار التقنيات المناسبة لإنتاج الطاقة الكهربائية، حيث شملت هذه العملية تحليلاً شاملاً لكافة أشكال التقنيات المجربة و الموثوقة في قطاع انتاج الكهرباء، وعملت على تقييمها بناء على مجموعة من المعايير الاستراتيجية التي شملت قُدرتها على المساهمة في مجالات أمن الطاقة والتنويع والاستدامة البيئية.. وأفضت هذه العملية الشاملة إلى اختيار تقنيات الطاقة المتجددة والطاقة النووية السلمية كمصادر رئيسية لإنتاج الطاقة مستقبلا وتتكامل مع بعضها، إلى جانب الحلول الحالية التي نعتمد عليها.
ومن المذهل أن نرى اليوم نتائج هذه الدراسة الخاصة بتخطيط مستقبل الطاقة.. ففي قطاع الطاقة المتجددة، برزت دولة الإمارات لتُصبح واحدة من أكبر منتجي الطاقة الكهربائية من المصادر المتجددة في منطقة الشرق الأوسط إذ نجحت في إنتاج ما يُقدر بحوالي 80% من الطاقة المتجددة في المنطقة.
و بينما تواصل دولة الإمارات التوسع في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، فإن محطة براكة للطاقة النووية السلمية تقوم بدور استراتيجي هام ومكمل لقطاع الطاقة المتجددة و هو الدور الذي أكدت عليه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية باعتبار الطاقة النووية إلى جانب الطاقة الكهرومائية، المصدر الرئيسي الوحيد للطاقة الصديقة للبيئة القابل للتنفيذ على نطاق واسع .. وبعبارة أوضح، فهي التقنية الوحيدة القادرة على إنتاج كميات كبيرة من الكهرباء على مدار الساعة وبانبعاثات كربونية معدومة تقريباً.
و ستنتج المفاعلات الأربعة في محطة براكة الطاقة الكهربائية على نحو آمن وموثوق وبشكل يغطي 25% من احتياجات دولة الإمارات من الطاقة الكهربائية .. وعلاوة على ذلك ستوفر عملية انتاج الكهرباء في محطة براكة النووية الفرصة لتحقيق أكبر انخفاض في مستويات الانبعاثات الكربونية في تاريخ قطاع الكهرباء في دولة الإمارات إذ سيحول استخدام الطاقة النووية في الدولة دون إصدار انبعاثات تُعادل تلك الصادرة عن 3.2 مليون سيارة سنوياً، والذي من شأنه أن يُعيد رسم ملامح قطاع الطاقة ويضع الدولة على مسار جديد نحو التنمية المستدامة.
و جاء اختيار التقنية الخاصة بمحطة براكة للطاقة النووية في أعقاب عملية انتقاء مُحكمة قائمة على معايير السلامة والجودة والكفاءة والموثوقية بشكل رئيسي.. وتتسم التقنية المعتمدة في مفاعلات الطاقة المتقدمة من طراز”APR1400″ بالتزامها بأعلى المعايير العالمية الخاصة بالسلامة .. إذ نجحت في الحصول على مجموعة من الاعتمادات العالمية مثل اعتماد هيئة الرقابة النووية في الولايات المتحدة، بالإضافة الى اعتمادها من قبل الهيئة الاتحادية للرقابة النووية، الجهة المسؤولة عن تنظيم القطاع النووي في دولة الإمارات العربية المتحدة.
تجدر الإشارة إلى أنّ محطتي “شين كوري 3 و4” في كوريا الجنوبية وهما المحطتان المرجعيتان لمحطات براكة للطاقة النووية تعملان منذ عدة سنوات بشكل آمن ومستقر تماماً.
وبالإضافة إلى ذلك يحظى برنامجنا باعتراف دولي قوي جاء نتيجة لسياسة الانفتاح والشفافية المُعتمدة منذ عام 2008.. فمنذ اعتمادها للسياسة العامة حول استخدام الطاقة النووية السلمية2، تقدمت دولة الإمارات بخطى ثابتة في تطوير برنامجها النووي السلمي بالانسجام مع أعلى معايير السلامة والأمن والحد من الانتشار النووي والشفافية التشغيلية، وذلك في إطار التعاون التام مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فضلاً عن الحرص على إبرام الشراكات مع الدول المسؤولة وتنفيذ البرنامج على نحو يضمن الاستدامة على المدى الطويل.
جدير بالذكر أنّ دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي ضوء التزامها بأعلى معايير الحد من الانتشار النووي، تعهدت بعدم تطوير أيّ منشآت محلية للتخصيب وإعادة المعالجة بل أقرّت في الحقيقة بعدم قانونية ممارسة مثل هذه الأنشطة و ما يرتبط بها من منشآت على أراضي الدولة.
و بات بإمكاننا بعد عقد من جهود التطوير أن نقول وبكل ثقة إنّ الشفافية التشغيلية كانت جزءاً أساسياً من برنامجنا، ولا سيّما أنّها أتاحت لنا الفرصة للاستعانة بالخبراء والمؤسسات المعنية بالطاقة النووية من جميع أنحاء العالم، وترسيخ ثقافة التطور المستمر والدروس المستفادة من قطاع الطاقة النووية العالمي ضمن برنامجنا.. و أود التأكيد هُنا على بعض الأمثلة المتميّزة التي توضح التزام برنامجنا بالشفافية التشغيلية.
ففي عام 2010، شكّلت دولة الإمارات المجلس الاستشاري الدولي، وهو لجنة مستقلة تضم في عضويتها مجموعة من الخبراء الدوليين المرموقين، ويترأسها الدكتور هانز بليكس، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية لأربع ولايات بين عامي 1981 و1997.
و قام المجلس بين عامي 2010 و2018 بمراجعة التقدم الذي أحرزته دولة الإمارات في الالتزام بمعايير السلامة والأمن والحد من الانتشار النووي والشفافية والاستدامة.. وعُقدت على مدار السنوات مقابلات بين أعضاء المجلس الذي يضم خبراء دوليين مرموقين في مجال السلامة النووية والأمن والحد من الانتشار، والجهات المعنية بتطوير البرنامج النووي السلمي الإماراتي .. وطرحوا كافة تساؤلاتهم وآرائهم وسجلوها في تقارير متاحة للجمهور3 ، لكن الأهم من ذلك كله، أنهم أسهموا في تطوير المشروع بمختلف جوانبه.
و يعتبر المجلس الاستشاري الدولي مثالا فريداً ومتميزاً وشهادة على التزام دولة الإمارات العربية المتحدة بأعلى المعايير.
أما المثال الثاني فيتعلق بتعاوننا الدائم مع الهيئات والوكالات النووية الدولية، مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية والرابطة العالمية للمشغلين النوويين.
حيث شهدت دولة الإمارات الدولة العضو في الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ عام 1976 مرحلةً جديدة من التعاون و الشراكة مع انطلاق البرنامج النووي السلمي الإماراتي.
و أجرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بناء على طلب من حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، أكثر من 11 مهمة مراجعة دولية شاملة لضمان امتثال البرنامج النووي السلمي الإماراتي والبنية التحتية النووية لمعايير الوكالة في مجال السلامة والأمن والحد من الانتشار النووي.
وكانت الإمارات الدولة الأولى التي تم تقييمها وفق المرحلة الثالثة و الأخيرة لبعثة المراجعة الدولية الشاملة للبنية التحتية النووية في عام 2018، وتلقت الدولة تقييمات إيجابية و النقاط الواجب تحسينها، والتي تمت معالجتها قبل بدء عمليات التشغيل.
وإضافة إلى بعثات التقييم الدولية شاركت دولة الإمارات بفعالية في مختلف الاجتماعات والمؤتمرات الدولية لتبادل المعارف والاستفادة من الخبرات.. وكان الأهم من بينها اجتماعات مراجعة الدول الأطراف في اتفاقية السلامة النووية حيث قدمت الدولة تقاريرها الوطنية الدورية للأطراف في الاتفاقية حول التقدم الذي أحرزته في مجال السلامة الخاصة بالبرنامج النووي السلمي وناقشت إجراءات السلامة والتقدم المحرز بشكل شفاف مع كل الدول الأطراف في الاتفاقية.
و نواصل على هذا النهج تعاوننا الوثيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لدعم وتطوير برامج الطاقة النووية السلمية في مختلف أنحاء العالم والدعوة للالتزام بالشفافية التشغيلية.
كما اعتمد برنامجنا أعلى معايير التميز الخاصة بالرابطة العالمية للمشغلين النوويين، وتعاونا مع مراكزها في مختلف أرجاء العالم لاكتساب الخبرات حول أفضل الممارسات وتدريب الكوادر الإماراتية وتحقيق أعلى مستويات الكفاءة في عمليات التشغيل والصيانة النووية لاستيفاء معايير الرابطة.
و تواصل دولة الإمارات حالياً التقدم وبخطوات ثابتة في تطوير برنامجها للطاقة النووية السلمية بكل أمان وثقة، حيث استكملت عمليات التفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية والرابطة العالمية للمشغلين النوويين ومئات عمليات التفتيش من الهيئة الاتحادية للرقابة النووية.
وبالمضي قدما تبقى بلادي الإمارات على التزامها المستمر بالتعلّم والتطور إدراكاً منها لاستمرارية مسيرة التميّز وسنتابع المشاركة و بفعالية في المنصات الدولية لمشاركة الآخرين خبراتنا والاستفادة من خبراتهم.
من خلال تخطيط وتنفيذ برنامج الطاقة النووية السلمية في دولة الإمارات، كانت دائما الشفافية والتعاون الدولي القوي بمثابة مبادئ أساسية ثابتة، والتي مكنت الامارات من تطوير برنامج يحقق أعلى معايير السلامة والأمن النووي وأصبح نموذجًا للبلاد الأخرى في المنطقة وخارجها.
و مع اقتراب مرحلة بدء تشغيل أول المفاعلات النووية في الربع الأول من العام الجاري وبعد استكمال الحصول على رخصة التشغيل من الهيئة الاتحادية للرقابة النووية ستبقى السلامة و الأمن وحظر الانتشار النووي على رأس أولوياتنا والتزاماتنا بما يدحض محاولات التشكيك في هذا الشأن مستندين إلى ترحيب الخبراء الدوليين المتخصصين بالسلامة النووية والأمن وعدم الانتشار النووي إلى جانب المهتمين بأخطار التغير المناخي وبأغلبية كبيرة بهذا الاختيار والمنهجية المتبعة في تطويره.