ثقافه وأدب وفنونسلايد 1

المسرح الإماراتي.. الفن قوة عمادها التنوير

المسرح الإماراتي، بكل مكوناته الفنية والأسلوبية والجمالية هو قوة إبداعية ناعمة تضاف إلى القوى الأدبية والتشكيلية وثقافة الكتابة، وثقافة القراءة، غير أن ميزة المسرح تكمن في جماعيته، فلا عمل مسرحياً إلا ويقوم على مؤلف، ومخرج، وممثلين، وإداريين أيضاً. وحتى فن المونودراما الذي يقوم على ممثل واحد وممثلين أحياناً، هو أيضاً فن جماعي.. قوته الناعمة قوة جماعية حيث الشراكة «التاريخية» بين صنّاع فن الخشبة أو صنّاع «أبي الفنون» مرة ثانية.. من كتّاب للمسرح وقادة العمل المسرحي وعرّابيه الذين هم «المخرجون» إلى بيادق و«حجارة» شطرنج المسرح الذين هم «الممثلون».
قوّة المسرحي تشمل القوة البدنية، إنه على نحو ما رياضي. ولكن ملعبه الخشبة بمقدمتها القريبة من الجمهور، وعمقها البعيد عن الجمهور، وتشمل قوة الممثل أيضاً «اللغة».. إيقاعها، أصواتها، مخارج الحروف، ضبط قواعد اللغة،.. كل ذلك «أي كل هذه القوة اللغوية الناعمة» هي «حقيبة» الممثل ورأسماله ووسيلة إقناعه على الخشبة، وإلا تحوّل إلى شبح ناطق.

بدايات مثيرة

إننا هنا نتحدث عن ثقافة معاصرة أو ثقافة حديثة للمسرحي الإماراتي، ولكن، دعونا نعود إلى البدايات.. ففي الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت قوّة الممثل الإماراتي تكمن في قدرته على صناعة «فرجة» شعبية.. فرجة في «الفريج» عادة، و«الفريج» باللهجة المحلية هو «الحي»، وقد كان الحي الشعبي هو المسرح المفتوح لممثلي ذلك الزمان، كأنهم خرجوا بالفطرة على العلبة الإيطالية، وراحوا يصنعون مسرحاً في الهواء الطلق، ولكنهم على أي حال كانوا يصنعون خشبة وستارة ونصوصاً وممثلين.. بالفطرة.
في أوائل تسعينات القرن العشرين أجريت حواراً مع الممثل الإماراتي سلطان الشاعر (1939 – 2009) الاسم العلم في أعمال مسرحية مبكرة تحتفظ بها الذاكرة الاجتماعية الشعبية الإماراتية وحتى الخليجية مثل «إشحفان»، و«قوم عنتر»، و«طريق الندم»، و«الغوص».. ونحن هنا إذ نذكر أسماء هذه الأعمال الفنية الإماراتية، فإنما من جانب آخر نشير إلى تاريخ المسرح الإماراتي ورواده، وكان سلطان الشاعر واحداً من هؤلاء الرواد وكان العمل المسرحي أحياناً تصنعه مجموعة صغيرة من الرجال، إذ كان من الصعب جداً أن تصعد المرأة إلى الخشبة.. هؤلاء الرجال المسرحيون: هم المؤلفون والمخرجون والممثلون، يصنعون الخشبة بأيديهم أي: يقومون بدور النجارين أيضاً، ويعملون على جلب الناس إلى الفرجة، أي يقومون بدور الدعاية «للتمثيلية» التي يصنعونها، أما إذا كانت «التمثيلية» تتطلب دوراً نسائياً فقد كان يقوم بهذا الدور واحد من الممثلين.
في أواخر الستينات أو أوائل السبعينات تظهر الممثلة موزة المزروعي التي سوف تملأ «الفراغ النسوي» في المسرح الإماراتي، تركت العمل في الشرطة وتدريب السياقة، وتحولت إلى المسرح، وسوف تظهر كوكبة ريادية إماراتية تعرفها الذاكرة المسرحية جيداً: عبدالله المطوع، ظاعن جمعة، جمعة بوميان، وإبراهيم جمعة، ولكن، لا بد للمسرح من نعومة، ورديف النعومة هو المرأة، فإلى جانب موزة المزروعي تظهر في السبعينات الممثلة الإماراتية سميرة أحمد، انضمت إلى مسرح دبي الشعبي في العام 1977، وصعد نجمها في العمل المسرحي «مقهى بوحمدة» الرّاسخ في وجدان المسرحيين الإماراتيين والخليجيين ذلك أنه كشف عن طاقات مسرحية ستصبح ذات يوم احترافية.. ومن الأعمال المسرحية الريادية أيضاً «دجاجة وتلفظ «دياية» ولو طيرّوها» و«ولد فقر طايح في نعمة» و«هالشكل يازعفران».
في أوائل ومنتصف الثمانينات يذهب عدد من المسرحيين الإماراتيين إلى المعاهد المتخصصة لدراسة المسرح (الإخراج تحديداً)، وذلك في الكويت ومصر، ومن ذلك الجيل يظهر اسمان يعرضان مبكراً خارج العلبة الإيطالية، ولكن هذه المرة يصدران في العمل المسرحي عن روح تجريبية مبكرة في هذا الفن القابل دائماً للتجريب، ونشير هنا إلى عملين مهمين: «حبة رمل» لناجي الحاي، و«جميلة» لجمال مطر.. وهذا الأخير عاد بثقافة مسرحية تجديدية، وسوف يخوض غمار الإخراج والتأليف مثله مثل ناجي الحاي الذي قدّم تجربة مسرحية ناجحة وماثلة في الوسط الثقافي المحلي.
إننا لا نتوخى هنا الحديث عن تاريخ المسرح في الإمارات، بل نتوقف عند محطات.. وبالفعل، فإن المسرح الإماراتي هو مسرح محطات.. من الفرجة إلى الهواية، إلى الاحتراف. من المحلية الشعبية إلى أعمال مكتوبة بالعربية الفصحى إلى الأخذ عن نصوص أجنبية.. من المسرح الفطري العفوي (سلطان الشاعر) إلى المسرح القائم على دراسة في معاهد متخصصة إلى مسرح ورش العمل. إلى المسرح الإماراتي الذي قاده مسرحيون عرب عاشوا في الإمارات وانصهروا في التجربة الفنية المحلية بكل فرادتها وخصوصيتها الثقافية ومن هؤلاء جواد الأسدي في تجربة مسرح الشارقة الوطني وتحديداً في عمل «مقهى بوحمدة».

وجوه وتجارب

أتوقف قليلاً عند تجربة الأسدي فهو صاحب مدرسة «الجسد» و«البروفة».. ينهك الأسدي ممثله في البروفة وأيضاً ينهكه على الخشبة.. أولاً بتدريبات يومية عنيفة، وثانياً بمراقبة صارمة في أثناء العرض.. هذه كلمات حق يتوجب أن تقال ذلك أن الذاكرة المسرحية الإماراتية تحتفظ بمحبة لتجربة الأسدي في المسرح الإماراتي، كما تحتفظ بمحبة أيضاً ل«مدارس» إخراجية عربية أخرى واكبت بدايات المسرح الإماراتي الاحترافي مثل «يحيى الحاج» الذي يقيم في الإمارات إلى اليوم ويشتغل على مسرح إماراتي من قلبه.
قد تكون للمؤلف والمخرج المصري زكي طليمات تجربة محدودة في المسرح الإماراتي، ولكنه تولى الإشراف الفني على المسرح العربي في الكويت في الستينات من القرن الماضي، وفي أواخر السبعينات استفاد المسرح الإماراتي من تجربة الكويتي صقر الرشود «توفي بحادث سير في الإمارات عام 1978».
أريد القول إن الخبرات المسرحية العربية وهي متعددة ومحترمة في «المدونة المسرحية الإماراتية».. التقت مع الخبرات الإماراتية، ليصبح المسرح الإماراتي احترافياً، وأولئك الهواة في الثمانينات وأوائل التسعينات أصبحوا اليوم نجوماً.. يحصدون الجوائز المحلية والعربية ويعرضون في قرطاج والمغرب ومصر والأردن بأداء له روافعه وثقافته المحلية ذات الخصوصية التراثية والمعاصرة.
إن أعلى قباب المعمار المسرحي الإماراتي هي «أيام الشارقة المسرحية» التي أطلقت، ومنذ أول دورة لها في أوائل ثمانينات القرن العشرين مئات المسرحيين.. كتّاباً، ممثلين، مخرجين، فنيين، منظرين، ونقاداً.. هم اليوم كتلة مسرحية إماراتية – مكتملة المهنية والتكوين.
شجعت «أيام الشارقة المسرحية» فن الخشبة الإماراتي والعربي وكرّمته بعروض داخل مسابقتها وخارج المسابقة التي تستند إلى خبرات غنية عند أعضاء لجان التحكيم المثقفة، ثم وإلى جانب كل عرض أو يليه ندوة تطبيقية هي في الواقع أشبه بورشة عمل نقدية تنعقد على هامش العرض.
من روافع المسرح الإماراتي أيضاً جمعية المسرحيين الإماراتيين الكيان المهني الذي يجمع الفرق المسرحية في الإمارات، كما يجمع الوسط المسرحي الإماراتي الذي يتألف من أكثر من 500 عنصر ذي صلة بالمسرح من مؤلفين ومخرجين وممثلين وغيرهم، وعملت الجمعية أيضاً على فضاء تثقيفي من خلال مجلة متخصصة تصدر عن الجمعية التي تحتفظ بأرشيف ضخم حول المسرح الإماراتي.
من المحطات المهمة أيضاً في «مدوّنة» المسرح الإماراتي نشير إلى «الهيئة العربية للمسرح» التي تأسست في العام 2007 ومقرها الشارقة، وفي أقل من عقد من الزمن عملت الهيئة على رفع شأن المسرح العربي، ولها فروع في عدد من العواصم العربية، وأشرفت على فعاليات ومناشط مسرحية هي امتداد لثقافة فن الخشبة في الإمارات.
المسرح في الإمارات أكثر من مسرح.. أو أنه «مسارح: من مسرح الشباب، إلى المسرح الجامعي، إلى المسرح المدرسي، إلى مسرح الطفل، إلى المسرح العربي الذي يلتئم في تظاهرات مدعومة مادياً ومعنوياً من الشارقة، ويضاف إلى ذلك الورش المسرحية الدورية، والنتاج النشري المتصل بصناعة كتاب المسرح المتخصص.
قوة المسرح الإماراتي تكمن في قوة البيئة الحاضنة له.. إنه من أولويات مشروع الشارقة الثقافي الذي أرسى أسسه وأعلى أعمدته صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وسموه رجل مسرح أيضاً.. أعاد بقلمه مجد المسرح التاريخي بشكل خاص.. وبقوة قلم سموّه قرأنا نصوصاً وشهدنا عروضاً تقول لنا: اقرؤوا التاريخ جيداً كي تتعلموا منه.. ومن مسرح صاحب السمو حاكم الشارقة تعلمنا الكثير: التنوير والنّور الذي ينتصر على الظلام، التسامح، الثقة بالثقافة وعمادها الكتاب والفن والمعرفة.

الخليج

إغلاق